الصراط السوي في سؤالات الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم (4)
• عن عبدالله بن عمرٍو- رضي الله عنهما- أنَّ رجلًا سأل النبيَّ- صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الإسلام خيرٌ؟ قال: «تُطعم الطَّعام، وتقرأ السَّلام على من عرَفتَ ومن لم تعرِف» [1].
• عبدالله بن عمرو بن العاص يقول: إنَّ رجلًا سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أيُّ المسلمين خيرٌ؟ قال: «من سلِم المسلمون من لسانه ويدِه» [2].
• عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: سُئل رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: أيُّ المسلمين أفضلُ؟ قال: «مَن سلِم المسلمون من لسانه ويده» [3].
فيه مسائلُ:
المسألة الأولى: معاني الكلمات:
• قوله: (أيُّ الإسلام خيرٌ؟)، وفي رواية عبدالله بن عمرو: (أيُّ المسلمين خيرٌ؟)، وفي رواية أبي موسى: (أيُّ المسلمين أفضل؟)، معناه: أيُّ خصالِه وأموره وأحواله [4].
• قوله: (تُطعم الطعام)؛ أي: أنْ تُطعمَ، وذكر الإطعام ليدخل فيه الضيافة وغيرها [5].
• قوله: (تقرأ السلام)؛ أي: تسلِّمُ؛ قال أبو حاتم السجستاني: تقول: اقرأْ عليه السلامَ، ليست موجودة في الأصل، من أين أتى بها؟ ولا تقول: أقرِئْه السلامَ، إلا أن يكون مكتوبًا، فتقول: أقرِئْه السلام؛ أي: اجعله يقرؤه [6].
• قوله: (ومن لم تعرف)؛ أي: لا تخصَّ به أحدًا تكبُّرًا أو تصنُّعًا، بل تعظيمًا لشعار الإسلام، ومراعاة لأخوة المسلم، فإن قيل: اللفظُ يدخل فيه الكافر والمنافق والفاسق، أجيبَ بأنه خصَّ بأدلة أخرى، أو النهي متأخِّر، وكان هذا عامًّا لمصلحة التأليف [7].
• قلت: التوجيه الأول أَوْلى؛ لِما ثبت في حديث أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تبدءوا اليهودَ ولا النَّصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدَهم في طريقٍ، فاضطروه إلى أضيقه» [8].
أما عن كيفية الردِّ عليهم إن سلَّموا علينا؛ فعن أنس بن مالك أنَّ أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- قالوا للنبي: إنَّ أهل الكتاب يسلِّمون علينا، فكيف نردُّ عليهم؟ قال: «قولوا: وعليكم» [9].
• قوله: «المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويدِه»؛ أي: المسلم الكاملُ، وليس المراد نفيَ الإسلام عمن لم يكنْ بهذه الخَصلة؛ بدليل قوله: (أيُّ المسلمين خير؟)، والمعنى من لم يؤذِ المسلمين بقول أو بفعل، وخص اليدَ بالذكر؛ لأنَّ معظم الأفعال بها [10].
فائدة: جمعَ في الحديث بين إطعام الطعام وإفشاءِ السلام؛ وذلك لاجتماعِهما في مُستلزَم المحبَّة الدينية، والأُلفة الإسلامية؛ كما قال- صلى الله عليه وسلم-: «ألا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحابَبْتم؟ أفشُوا السلامَ بينكم»... وفيه دليلٌ على أن السلامَ لا يُقصَر على من يعرف، بل على المسلمين كافَّةً [11].
قال أبو الزِّناد: في هذا الحديث الحضُّ على المواساة، واستجلاب قلوب الناس بإطعام الطعامِ وبذْل السلام؛ لأنه ليس شيءٌ أجلبَ للمحبة وأثبتَ للمودة منهما، وقد مدح الله المُطعم للطعام فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].
ثم ذكر اللهُ جزيلَ ما أثابهم عليه، فقال: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 11، 12].
ووصف- تعالى- مَن لم يُطعمه بقوله في صفة أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 42- 45].
وعاب اللهُ- تعالى- على من أراد أن يحرِم طعامَه أهلَ الحاجة إليه، فذكر أهل الجنة: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم: 17- 22].
يعنى المقطوع، فأذهب- تعالى- ثمارَهم وحرَمهم إياها حين أعلنوا الاستئثارَ بها دون المساكين [12].
فائدة: ما سبب وقوع اختلاف الجواب في خير المسلمين؟
فيه احتمالات:
• منها: لاختلاف حال السائل والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجةُ إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثرَ وأهم؛ لما حصل من إهمالهما والتساهل في أمورهما ونحو ذلك، وفي الموضع الآخر إلى الكف عن إيذاء المسلمين [13].
• ومنها: يمكِن التوفيق بأنهما متلازمان؛ إذ الإطعام مستلزمٌ لسلامة اليدِ، والسلامُ لسلامة اللسان؛ قاله الكرماني.
• ومنها: أن يكون الجوابُ اختلف؛ لاختلاف السؤال عن الأفضلية إن لوحظ بين لفظِ: أفضل ولفظ خير فرقٌ، وعلى تقدير اتحاد السؤالين جوابٌ مشهور، وهو الحمل على اختلاف حال السائلين أو السامعين [14].
-------------------------
[1] متفق عليه: البخاري (12)، كتاب الإيمان، ومسلم (39)، كتاب الإيمان، وأبو داود (5196)، والنسائي (5000)، وابن ماجه (3235).
[2] متفق عليه: البخاري (11)، كتاب الإيمان، ومسلم (40)، كتاب الإيمان.
[3] البخاري (10)، كتاب الإيمان، دون السؤال، ومسلم (42) كتاب الإيمان، اللفظ له، والترمذي (2628).
[4] قاله النووي (2/13).
[5] قاله ابن حجر (1/85).
[6] الفتح (1/85).
[7] الفتح (1/85).
[8] مسلم (2167).
[9] مسلم (2163).
[10] قاله النووي (2/14).
[11] قاله القاضي عياض كما في المفهم على شرح مسلم (1/139).
[12] شرح البخاري لابن بطال (1/43).
[13] قاله النووي (2/13).
[14] قاله ابن حجر (1/84).
الكاتب: أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة.
المصدر: موقع الألوكة.